ربما يظن البعض أن الولادة، أو الزواج، أو الموت هي أهم لحظات الحياة، إلا أن العلم يشير إلى عكس ذلك، فأهم لحظات الحياة هي تكون ما يعرف بالمُعيْدة لدى الجنين.
كتب عالم الأجنة البارز لويس ولبيرت هذه الكلمات منذ ثلاثين عاماً في ورقة بحثية بعنوان "من البويضة إلى الجنين: أحداث حاسمة في مرحلة النمو المبكرة" في الوقت الذي كانت فيه مرحلة تكون المعيدة لدى الإنسان، والتي تعد المرحلة الأكثر أهمية بين كل التحولات الجينية، هي أمر مجهول في ذلك الوقت.
في واقع الأمر، ما تزال تلك المرحلة هي الصندوق الأسود للنمو البشري، والتي تحدث بعد 16 أو 17 يوماً بعد الإخصاب، وبعد أكثر من أسبوع من ثبوت الجنين في بطانة الرحم، وفقاً لتقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وعلى الرغم من أهميتها البالغة، لم يشهد أحد في الواقع على تكون المعيدة في الجنين البشري. يمكننا أن نستنتج حدوثها من خلال الدراسات على أجنة أنواع أخرى من الثدييات، ومن خلال ما يعرف بمجموعة كارنيجي للأجنة البشرية (قرابة 8000 جنين جُمعت قبل أربعينات القرن الماضي) من أرحام النساء اللاتي خضعت لعمليات استئصال للرحم أجريت في مراحل زمنية مختلفة من الحمل قبل إجراء العمليات.
في الآونة الأخيرة، مكنت الثورة العلمية في مجال التلقيح الاصطناعي العلماء من دراسة مراحل تطور الجنين البشري المبكرة بالتفصيل خارج الجسم، إلا أن مرحلة المعيدة ما زالت غامضة أيضاً.
من بين المشكلات التي واجهت العلماء هي صعوبة الحفاظ على الجنين حياً لأكثر من تسعة أيام، وهو ما يعد نصف المسافة تقريباً للوصول لمرحلة النمو الرئيسية التي تتحول فيها الكرة البسيطة من الخلايا الجنينية لتأخذ شكل خلايا الجسم الطبيعي، ظهور العلامات الأولى للأنسجة ثلاثية الطبقات التي تشكل "المعيدة" ذات الشكل الأسطواني.
يبدو أن هذا الواقع سيتغير بعد دراستين جديدتين نشرتا شهر مايو/أيار 2016، حيث أظهرت تلك الدراسات أنه من الممكن الحفاظ على حياة الأجنة الملقحة صناعياً ونموها لمدة 13 يوماً بعد الإخصاب.
يعتقد العلماء الذين أجروا تلك الدراسات أنه بإمكانهم الوصول لأبعد من ذلك، إلا أنهم توقفوا نظراً للقاعدة العلمية التي يتبناها العلماء حول العالم بعدم تكوين جنين ملقح صناعياً خارج رحم الأم لما يزيد عن 14 يوماً.
في بريطانيا، تجاوز هذه القاعدة يعتبر جريمة جنائية، إلا أن العديد من العلماء يتساءل حالياً حول ما إذا كان ينبغي تغيير ذلك القانون، حيث يظنون أن دراسة تلك المرحلة من تكون الجنين هو أمر بالغ الأهمية، بما يجعل من اللازم ملاحظته ودراسته وفهمه.
يقول العلماء إن السماح للأجنة الملقحة صناعياً بأن تنمو في تلك المرحلة الفاصلة، يمكن أن يساعد في حل الكثير من المشكلات الطبية مثل العقم، والإجهاض المتكرر، بالإضافة إلى التشوهات الخلقية مثل شلل الحبل الشوكي، بل وحتى السرطان وبعض المشاكل المرتبطة بالسن.
يقول عظيم صوراني، أستاذ علم وظائف الأعضاء بجامعة كامبريدج "من المحتمل أننا نفتقد الكثير من المعلومات المهمة حول النمو البشري بسبب تلك القاعدة (قاعدة الـ14 يوماً)".
وأضاف "ينتج عن ذلك ضياع المادة؛ لأن لدينا الكثير من الأجنة المتبقية من التلقيح الاصطناعي؛ لذا ومن خلال مد تلك الفترة الزمنية، بإمكاننا استخدامها في الأبحاث للوصول إلى أول معلومات مؤكدة حول المرحلة الأولى للنمو البشر، والتي تؤثر بشكل كبير على الحياة لاحقاً. لماذا لا نستغل هذه المادة القيمة، ونقوم بمد الحد الزمني وأن نستخدمها في شيء يمكن أن يسهم في تقدم الطب؟"
ومن خلال السماح لبعض الأجنة الملقحة صناعياً بالوصول لمرحلة تكون المعيدة، سيتمكن العلماء من فهم بعض الأحداث الرئيسية في المراحلة الأولى للنمو البشري.
يمكن على سبيل المثال أن تغير فهمنا في استخدام الخلايا الجذعية في مجال الطب التجديدي، أو أن تخبرنا عن المراحل الرئيسية لتطور "الخلايا الجنسية البدائية" والتي تتحول فيما بعد لتكون الحيوانات المنوية أو البويضات.
هذه الخلايا الجنسية يمكن أن نصفها بأنها "خالدة"، حيث تنتقل بين الأجيال، ومن خلال معرفة كيفية تكونها في أثناء تكون المعيدة، يمكن بذلك تخليق الحيوانات المنوية أو البويضات معملياً باستخدام خلايا الجلد، وهو ما طُبق فعلياً على الفئران.
يشرح صوراني الأمر قائلاً "لدي اهتمام الخاص بأصل الخلايا التناسلية والتي غالباً ما تتكون في اليوم السابع عشر للجنين، وهي نفس فترة تكون المعيدة. ولأننا لا يمكننا دراسة الأجنة البشرية في تلك المرحلة بسبب قاعدة الـ14 يوماً، نحن نفتقد للكثير من المعلومات الهامة حول النمو البشري".
"الخلايا الأرومية التي تكون الدم والعضلات والأمعاء وغيرها كلها تتكون هنا. هذه هي نقطة البداية الحقيقية في الحياة، لقد كان لويس ولبيرت محقاً، هذه النقطة هي الأهم".
يرى الكثير من العلماء أن قاعدة الـ14 يوماً قد عفا عليها الزمن. تعود القاعدة بالأساس إلى عام 1979، وقد قدمها المجلس الأخلاقي الاستشاري لوزارة الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية في الولايات المتحدة بعد عام واحد من ولادة لويس براون، أول طفل ملقح صناعياً في العالم. وفي عام 1948، قُدِمت القاعدة ذاتها في بريطانيا من خلال لجنة وارنوك، والتي أصبح تقريرها فيما بعد أساساً لما يعرف بقانون الإخصاب البشري والأجنة الصادر عام 1990.
المنطق وراء اختيار فترة 14 يوماً بالتحديد جاء كمزيج بين الفكر الديني والعلمي، فهي النقطة التي عندها تحديداً يصبح انقسام الجنين إلى توأم مستحيلاً، لذلك كان رجال الدين سعداء بتلك القاعدة التي ربطوها بأن الروح لم تكن قد دخلت إلى الجنين بعد، وإلا لتشارك التوأم روح واحدة.
السبب العلمي خلف تلك القاعدة، أن تلك الفترة تسبق ظهور ما يعرف بـ"الشريط البدائي"، وهو عبارة عن مجموعة من الأنسجة التي تكوّن الجنين، والتي تستبدل الأنسجة الأولية للمشيمة.
يقول روبين لوفل بادج، عالم الوراثة بمعهد فرانسيس كريك بلندن "تكون تلك الفترة قبل تكون الشريط البدائي، والعلامات الأولى لنمو الجهاز العصبي، لذلك تقترح تلك القاعدة أن هذا الأمر يسبق شعور الجنين بأي شيء. بالتأكيد أيضاً لن يشعر الجنين بأي شيء حتى عدة شهور لاحقة حتي تحدث عملية الشعور".
وأضاف "قاعدة الـ14 يوماً هي مزيج من الطرح العلمي وغير العلمي، ولكن اختيار هذا الوقت تحديداً كان ذا مغزى فلسفي أكثر من كونه علمياً، مع العلم أننا لم نتمكن من الحفاظ على النمو الطبيعي للجنين لأكثر من سبعة أيام سوى الآن".
شهر مايو/أيار 2016، نُشِرت دراستان توضحان أنه من الممكن مد نمو الأجنة في المختبر لمدة تصل إلى ذلك الحد القانوني. قادت ماغدالينا زيرنيكا جويتز، من جامعة كامبريدج، إحدى الدراستين، والتي عملت عليها طوال عامين استطاعت خلالها إثبات نظريتها على أجنة الفئران التي تمكنت من النمو خارجياً بمساعدة بعض المواد وعوامل النمو الإضافية والهرمونات التي أضيفت إلى مستنبت التلقيح الاصطناعي.
ما كان مفاجئاً بالنسبة لها بحسب بحثها الذي نشرته في مجلة Nature Cell Biology كانت القدرة الفطرية للجنين البشري على التنظيم الذاتي في ظل غياب الرحم وتكوين طبقات من الأنسجة أسطوانية الشكل، والتي تظهر بعد عدة أيام من مرحلة الإنغراس.
تقول زيرنيكا جويتز "مرحلة الإنغراس هي من بين العلامات الفارقة في النمو البشري، لأنه بداية من تلك المرحلة فصاعداً يبدأ الجنين في أخذ شكل معين وتتحدد الهيئة العامة للجسم".
وأضافت "تلك المرحلة أيضاً في حالة الحمل هي المرحلة التي تُكتسب فيها العيوب الخلقية، ولكن حتى الآن، كان من المستحيل دراسة ذلك على الأجنة البشرية. هذه الطريقة الجديدة تمنحنا فرصة فريدة للوصول إلى فهم متعمق حول نمونا في هذه المراحل الفاصلة ومساعدتنا في فهم ما يحدث في حالة الإجهاض على سبيل المثال".
الدراسة الثانية جاءت من علي بريفانلو رئيس مختبر علم الأجنة الجزيئي في جامعة روكفيلر في نيويورك. للمرة الأولى، بدا وكأن العلماء توصلوا إلى الخبرة التقنية المطلوبة لتجاوز مدة الحد القانوني. الأمر أشبه على سبيل المثال بالتوصل إلى سيارات يمكنها أن تتحرك بسرعة أكبر من 70 ميلاً في الساعة على الطريق، فلماذا لا يجب أن يفعلوا ذلك؟
بيتر دونوفان، خبير علم الوراثة الجزيئي ونمو الخلايا الجذعية بجامعة كاليفورنيا، لخص الاحتمالات التي تلوح في الأفق قائلاً "ربما سنتمكن من فهم عواقب ما يعرف بمتلازمة الكحول الجنيني، وأن ندرس الأسباب المحتملة للتوحد، وأن نتوصل إلى بعض الكيميائية البيئية التي تؤثر في النمو. ربما نتمكن أيضاً على سبيل المثال من فهم ما يسببه فيروس زيكا للأجنة والذي يتسبب في مشكلات كبرى في نمو المخ".
في الولايات المتحدة، والتي تتميز بتأثير أقوى للحركات المناهضة للإجهاض تاريخياً ورفضها لمثل تلك الأبحاث العلمية وتفوق بريطانيا في ذلك، ظهرت العديد من الأصوات المطالبة بتوخي الحذر. يقول هنري جريلي، مدير المركز القانون والعلوم البيولوجية في كلية الطب بجامعة ستانفورد، إن حد الـ14 يوماً لا يجب أن يُخترق لأن ذلك أصبح ممكناً الآن.
يقول غريلي "بشكل واضح، إنه غير مقتنع.. بالنظر إلى القيمة العلمية المشكوك فيها لهذه الأبحاث، فلا يوجد ما يدعو لإعادة النظر في هذا الحد، ناهيك عن تغييره".
تبدو وجهة نظر الفيلسوف فرانسوا بايلز، المتخصص بأخلاق الطب الحيوي بجامعة دالهوسي في كندا، مختلفة ولاذعة أكثر من غريلي، حيث يقول "أليس من المثير للسخرية أن "يظهر اقتراح لتغيير الحد المتفق عليه لنمو الأجنة الملقحة صناعيا (14 يوماً) بعدما ظهر أخيراً التطبيق الفعلي لهذا الحد الذي يمنع العلماء من فعل ما يودون القيام به".
في المقهى اللندني الصاخب، أخرج لوفل بادج قلماً رفيع السن، ولمس صفحات مفكرتي بخفة ليترك بقعة مرئية بالكاد من الحبر قائلاً "إذا كانت هذه هي البويضة المُلقحَة في اليوم الأول" ثم رسم نقطة كاملة بجوارها مستطرداً "فهذا هو الجنين في اليوم الرابع عشر".
بالطبع لا يهم الحجم بالنسبة للمتدينين الأخلاقيين، فالروح هي مثار اهتمامهم. تتبع الكنيسة الكاثوليكية الخط الأخلاقي القائل بأن الروح تبدأ مع الحمل، ولهذا ترفض إجراء الأبحاث على أجنة التلقيح الصناعي، بغض النظر عن أعمارهم التي تُحسب بالأيام، بينما تملك بعض الأديان الأخرى آراء مختلفة حول بدء الحياة البشرية، ففي الصين، مثلاً، يعتقد الكثيرون أن الحياة تبدأ بعد يوم كامل من الولادة.
أما لوفل بادج وصوراني، فهما أكثر اهتماماً بالفوائد الطبية التي قد تظهر نتيجة لإجراء الأبحاث على أجنة التلقيح الاصطناعي القديمة، كما يؤمنان أن ثمار هذه الدراسات ستظهر أول ما تظهر في شكل تطورات ملموسة في علاج الخصوبة، ومعدلات أعلى للحمل عن طريق التلقيح الاصطناعي، بالإضافة لانخفاض حوادث الإجهاض أو تسمم الحمل.
كما يريان أنه سيكون هناك الكثير ليعرفانه بشأن كيفية ظهور الاضطرابات الجينية في هذه المرحلة المبكرة من تطور الأجنة.
ومثل الكثير من العلماء حول العالم، أثارت تقنية تحرير الجينات الجديدة ( Crispr-Cas9) دهشتهما بقدرتها وبساطتها، وهي التقنية التي شُبهت بأمر "الإيجاد والاستبدال" في برامج معالجة النصوص، لكن على الخريطة الجينية للحمض النووي.
حصل معهد كريك على الرخصة الأولى لاستخدام هذه التقنية على الأجنة التي تبلغ أعمارهم يوماً واحداً، والتي تم التبرع بها للأغراض البحثية، في محاولة لفهم أسباب تكرار عمليات الإجهاض.
في الوقت ذاته، أسرع كل من لوفل بادج وصوراني بإدخال Crispr-Cas9 في الحديث حول أسباب تمديد المدة إلى 14 يوماً، حيث يرى كلاهما أنها ستسمح للعلماء باكتشاف الجينات النشطة أثناء المرحلة الحاسمة للمعيدة، حين تُكشف خطة الجسم بشكل واضح، وتبدأ طبقات الأنسجة الثلاثة الرئيسية في التشكل، الأديم الظاهر والأديم المتوسط والأديم الباطن، باعتبارها الأساس البيولوجي للأنسجة المخصصة للجهاز العصبي، وللعضلات والدم، وللرئة والأمعاء على التوالي.
كما يضيف صوراني "سيسمح لنا إحداث طفرات في الأجنة البشرية المبكرة، باستخدام Crispr-Cas9 بالتساؤل حول كيفية تأثير هذه الجينات على المرحلة المبكرة للتطور. إحدى الفوائد التي يمكننا تصورها ستظهر في الطب التجديدي. نحن نحاول صناعة العديد من أنواع الخلايا، وبعض القرارات الحاسمة تُتخَذ في هذه اللحظة".
يشير صوراني ولوفل بادج أيضاً إلى أن الأمر الوحيد الذي تعلمناه من دراسة أجنة الفئران هو اختلافها عن الأجنة البشرية، كما يضيفان أن التجارب على الفئران أثبتت فاعليتها كنموذج، لكنه نموذج ما زال له حدوده، حيث يقول صوراني "لقد كانت الفئران نموذجاً أساسياً لدراسة الثدييات، لكن يظهر بشكل متزايد أنها لا تمكننا من استنباط ما سيحدث للبشر. نحن نحتاج بالفعل لفهم علم الأجنة البشرية لفهم ماهية الاختلافات".
يبدأ "الصندوق الأسود" للتطور البشري في اليوم 14 وينتهي في اليوم 28 حين يتمكن العلماء من دراسة الأجنة المُجهَضة، وبحسب ما يرى صوراني فإن الحد الجديد للأجنة لن يؤدي لسلسلة من الكوارث، بافتراض أنه سيكون من الممكن تقنياً الوصول لذلك الحد، خاصة أن الوصول لليوم 21 في التطبيق ليس "هيناً".
أما بالنسبة لإمكانية استمرار حمل كامل خارج الرحم، فيشير لوفل بادج إلى إن هذا لن يحدث، على الأقل أثناء حياته. سيظل شبح "عالم جديد شجاع" وأجنته الكاملة في أنابيب الاختبار محض خيال، فبحسب لوفل بادج "لا أحد قريب من فعل ذلك في أي نوع من الثدييات".
كما يشير أيضاً إلى الحاجة الملحة لمتابعة وفهم المعيدة، والتي لن تتم إلا عبر زيادة مدة الأربعة عشر يوماً بأسبوع أو اثنين. ويضيف "أعتقد أنه يجب إعادة النظر في هذا الحد. وأميل لذلك الرأي، لكن كعالم أعتقد أيضاً أن علينا إقناع الناس بذلك، فحجج زيادة الحدّ قوية للغاية".
وفي اليوم الرابع عشر، ربما يُلقى بعض الضوء أخيراً على الصندوق الأسود للوجود البشري.
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
كتب عالم الأجنة البارز لويس ولبيرت هذه الكلمات منذ ثلاثين عاماً في ورقة بحثية بعنوان "من البويضة إلى الجنين: أحداث حاسمة في مرحلة النمو المبكرة" في الوقت الذي كانت فيه مرحلة تكون المعيدة لدى الإنسان، والتي تعد المرحلة الأكثر أهمية بين كل التحولات الجينية، هي أمر مجهول في ذلك الوقت.
في واقع الأمر، ما تزال تلك المرحلة هي الصندوق الأسود للنمو البشري، والتي تحدث بعد 16 أو 17 يوماً بعد الإخصاب، وبعد أكثر من أسبوع من ثبوت الجنين في بطانة الرحم، وفقاً لتقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وعلى الرغم من أهميتها البالغة، لم يشهد أحد في الواقع على تكون المعيدة في الجنين البشري. يمكننا أن نستنتج حدوثها من خلال الدراسات على أجنة أنواع أخرى من الثدييات، ومن خلال ما يعرف بمجموعة كارنيجي للأجنة البشرية (قرابة 8000 جنين جُمعت قبل أربعينات القرن الماضي) من أرحام النساء اللاتي خضعت لعمليات استئصال للرحم أجريت في مراحل زمنية مختلفة من الحمل قبل إجراء العمليات.
في الآونة الأخيرة، مكنت الثورة العلمية في مجال التلقيح الاصطناعي العلماء من دراسة مراحل تطور الجنين البشري المبكرة بالتفصيل خارج الجسم، إلا أن مرحلة المعيدة ما زالت غامضة أيضاً.
لا يمكن الاحتفاظ به حياً
من بين المشكلات التي واجهت العلماء هي صعوبة الحفاظ على الجنين حياً لأكثر من تسعة أيام، وهو ما يعد نصف المسافة تقريباً للوصول لمرحلة النمو الرئيسية التي تتحول فيها الكرة البسيطة من الخلايا الجنينية لتأخذ شكل خلايا الجسم الطبيعي، ظهور العلامات الأولى للأنسجة ثلاثية الطبقات التي تشكل "المعيدة" ذات الشكل الأسطواني.
يبدو أن هذا الواقع سيتغير بعد دراستين جديدتين نشرتا شهر مايو/أيار 2016، حيث أظهرت تلك الدراسات أنه من الممكن الحفاظ على حياة الأجنة الملقحة صناعياً ونموها لمدة 13 يوماً بعد الإخصاب.
يعتقد العلماء الذين أجروا تلك الدراسات أنه بإمكانهم الوصول لأبعد من ذلك، إلا أنهم توقفوا نظراً للقاعدة العلمية التي يتبناها العلماء حول العالم بعدم تكوين جنين ملقح صناعياً خارج رحم الأم لما يزيد عن 14 يوماً.
جريمة بعد 14 يوماً
في بريطانيا، تجاوز هذه القاعدة يعتبر جريمة جنائية، إلا أن العديد من العلماء يتساءل حالياً حول ما إذا كان ينبغي تغيير ذلك القانون، حيث يظنون أن دراسة تلك المرحلة من تكون الجنين هو أمر بالغ الأهمية، بما يجعل من اللازم ملاحظته ودراسته وفهمه.
يقول العلماء إن السماح للأجنة الملقحة صناعياً بأن تنمو في تلك المرحلة الفاصلة، يمكن أن يساعد في حل الكثير من المشكلات الطبية مثل العقم، والإجهاض المتكرر، بالإضافة إلى التشوهات الخلقية مثل شلل الحبل الشوكي، بل وحتى السرطان وبعض المشاكل المرتبطة بالسن.
ثروة ضائعة
يقول عظيم صوراني، أستاذ علم وظائف الأعضاء بجامعة كامبريدج "من المحتمل أننا نفتقد الكثير من المعلومات المهمة حول النمو البشري بسبب تلك القاعدة (قاعدة الـ14 يوماً)".
وأضاف "ينتج عن ذلك ضياع المادة؛ لأن لدينا الكثير من الأجنة المتبقية من التلقيح الاصطناعي؛ لذا ومن خلال مد تلك الفترة الزمنية، بإمكاننا استخدامها في الأبحاث للوصول إلى أول معلومات مؤكدة حول المرحلة الأولى للنمو البشر، والتي تؤثر بشكل كبير على الحياة لاحقاً. لماذا لا نستغل هذه المادة القيمة، ونقوم بمد الحد الزمني وأن نستخدمها في شيء يمكن أن يسهم في تقدم الطب؟"
ومن خلال السماح لبعض الأجنة الملقحة صناعياً بالوصول لمرحلة تكون المعيدة، سيتمكن العلماء من فهم بعض الأحداث الرئيسية في المراحلة الأولى للنمو البشري.
يمكن على سبيل المثال أن تغير فهمنا في استخدام الخلايا الجذعية في مجال الطب التجديدي، أو أن تخبرنا عن المراحل الرئيسية لتطور "الخلايا الجنسية البدائية" والتي تتحول فيما بعد لتكون الحيوانات المنوية أو البويضات.
الخلايا الخالدة
هذه الخلايا الجنسية يمكن أن نصفها بأنها "خالدة"، حيث تنتقل بين الأجيال، ومن خلال معرفة كيفية تكونها في أثناء تكون المعيدة، يمكن بذلك تخليق الحيوانات المنوية أو البويضات معملياً باستخدام خلايا الجلد، وهو ما طُبق فعلياً على الفئران.
يشرح صوراني الأمر قائلاً "لدي اهتمام الخاص بأصل الخلايا التناسلية والتي غالباً ما تتكون في اليوم السابع عشر للجنين، وهي نفس فترة تكون المعيدة. ولأننا لا يمكننا دراسة الأجنة البشرية في تلك المرحلة بسبب قاعدة الـ14 يوماً، نحن نفتقد للكثير من المعلومات الهامة حول النمو البشري".
"الخلايا الأرومية التي تكون الدم والعضلات والأمعاء وغيرها كلها تتكون هنا. هذه هي نقطة البداية الحقيقية في الحياة، لقد كان لويس ولبيرت محقاً، هذه النقطة هي الأهم".
لماذا 14 يوماً؟
يرى الكثير من العلماء أن قاعدة الـ14 يوماً قد عفا عليها الزمن. تعود القاعدة بالأساس إلى عام 1979، وقد قدمها المجلس الأخلاقي الاستشاري لوزارة الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية في الولايات المتحدة بعد عام واحد من ولادة لويس براون، أول طفل ملقح صناعياً في العالم. وفي عام 1948، قُدِمت القاعدة ذاتها في بريطانيا من خلال لجنة وارنوك، والتي أصبح تقريرها فيما بعد أساساً لما يعرف بقانون الإخصاب البشري والأجنة الصادر عام 1990.
المنطق وراء اختيار فترة 14 يوماً بالتحديد جاء كمزيج بين الفكر الديني والعلمي، فهي النقطة التي عندها تحديداً يصبح انقسام الجنين إلى توأم مستحيلاً، لذلك كان رجال الدين سعداء بتلك القاعدة التي ربطوها بأن الروح لم تكن قد دخلت إلى الجنين بعد، وإلا لتشارك التوأم روح واحدة.
السبب العلمي خلف تلك القاعدة، أن تلك الفترة تسبق ظهور ما يعرف بـ"الشريط البدائي"، وهو عبارة عن مجموعة من الأنسجة التي تكوّن الجنين، والتي تستبدل الأنسجة الأولية للمشيمة.
يقول روبين لوفل بادج، عالم الوراثة بمعهد فرانسيس كريك بلندن "تكون تلك الفترة قبل تكون الشريط البدائي، والعلامات الأولى لنمو الجهاز العصبي، لذلك تقترح تلك القاعدة أن هذا الأمر يسبق شعور الجنين بأي شيء. بالتأكيد أيضاً لن يشعر الجنين بأي شيء حتى عدة شهور لاحقة حتي تحدث عملية الشعور".
وأضاف "قاعدة الـ14 يوماً هي مزيج من الطرح العلمي وغير العلمي، ولكن اختيار هذا الوقت تحديداً كان ذا مغزى فلسفي أكثر من كونه علمياً، مع العلم أننا لم نتمكن من الحفاظ على النمو الطبيعي للجنين لأكثر من سبعة أيام سوى الآن".
هل اخترق العلم الحد القانوني؟
شهر مايو/أيار 2016، نُشِرت دراستان توضحان أنه من الممكن مد نمو الأجنة في المختبر لمدة تصل إلى ذلك الحد القانوني. قادت ماغدالينا زيرنيكا جويتز، من جامعة كامبريدج، إحدى الدراستين، والتي عملت عليها طوال عامين استطاعت خلالها إثبات نظريتها على أجنة الفئران التي تمكنت من النمو خارجياً بمساعدة بعض المواد وعوامل النمو الإضافية والهرمونات التي أضيفت إلى مستنبت التلقيح الاصطناعي.
ما كان مفاجئاً بالنسبة لها بحسب بحثها الذي نشرته في مجلة Nature Cell Biology كانت القدرة الفطرية للجنين البشري على التنظيم الذاتي في ظل غياب الرحم وتكوين طبقات من الأنسجة أسطوانية الشكل، والتي تظهر بعد عدة أيام من مرحلة الإنغراس.
تقول زيرنيكا جويتز "مرحلة الإنغراس هي من بين العلامات الفارقة في النمو البشري، لأنه بداية من تلك المرحلة فصاعداً يبدأ الجنين في أخذ شكل معين وتتحدد الهيئة العامة للجسم".
وأضافت "تلك المرحلة أيضاً في حالة الحمل هي المرحلة التي تُكتسب فيها العيوب الخلقية، ولكن حتى الآن، كان من المستحيل دراسة ذلك على الأجنة البشرية. هذه الطريقة الجديدة تمنحنا فرصة فريدة للوصول إلى فهم متعمق حول نمونا في هذه المراحل الفاصلة ومساعدتنا في فهم ما يحدث في حالة الإجهاض على سبيل المثال".
الدراسة الثانية جاءت من علي بريفانلو رئيس مختبر علم الأجنة الجزيئي في جامعة روكفيلر في نيويورك. للمرة الأولى، بدا وكأن العلماء توصلوا إلى الخبرة التقنية المطلوبة لتجاوز مدة الحد القانوني. الأمر أشبه على سبيل المثال بالتوصل إلى سيارات يمكنها أن تتحرك بسرعة أكبر من 70 ميلاً في الساعة على الطريق، فلماذا لا يجب أن يفعلوا ذلك؟
بيتر دونوفان، خبير علم الوراثة الجزيئي ونمو الخلايا الجذعية بجامعة كاليفورنيا، لخص الاحتمالات التي تلوح في الأفق قائلاً "ربما سنتمكن من فهم عواقب ما يعرف بمتلازمة الكحول الجنيني، وأن ندرس الأسباب المحتملة للتوحد، وأن نتوصل إلى بعض الكيميائية البيئية التي تؤثر في النمو. ربما نتمكن أيضاً على سبيل المثال من فهم ما يسببه فيروس زيكا للأجنة والذي يتسبب في مشكلات كبرى في نمو المخ".
في الولايات المتحدة، والتي تتميز بتأثير أقوى للحركات المناهضة للإجهاض تاريخياً ورفضها لمثل تلك الأبحاث العلمية وتفوق بريطانيا في ذلك، ظهرت العديد من الأصوات المطالبة بتوخي الحذر. يقول هنري جريلي، مدير المركز القانون والعلوم البيولوجية في كلية الطب بجامعة ستانفورد، إن حد الـ14 يوماً لا يجب أن يُخترق لأن ذلك أصبح ممكناً الآن.
يقول غريلي "بشكل واضح، إنه غير مقتنع.. بالنظر إلى القيمة العلمية المشكوك فيها لهذه الأبحاث، فلا يوجد ما يدعو لإعادة النظر في هذا الحد، ناهيك عن تغييره".
تبدو وجهة نظر الفيلسوف فرانسوا بايلز، المتخصص بأخلاق الطب الحيوي بجامعة دالهوسي في كندا، مختلفة ولاذعة أكثر من غريلي، حيث يقول "أليس من المثير للسخرية أن "يظهر اقتراح لتغيير الحد المتفق عليه لنمو الأجنة الملقحة صناعيا (14 يوماً) بعدما ظهر أخيراً التطبيق الفعلي لهذا الحد الذي يمنع العلماء من فعل ما يودون القيام به".
في المقهى اللندني الصاخب، أخرج لوفل بادج قلماً رفيع السن، ولمس صفحات مفكرتي بخفة ليترك بقعة مرئية بالكاد من الحبر قائلاً "إذا كانت هذه هي البويضة المُلقحَة في اليوم الأول" ثم رسم نقطة كاملة بجوارها مستطرداً "فهذا هو الجنين في اليوم الرابع عشر".
الروح
بالطبع لا يهم الحجم بالنسبة للمتدينين الأخلاقيين، فالروح هي مثار اهتمامهم. تتبع الكنيسة الكاثوليكية الخط الأخلاقي القائل بأن الروح تبدأ مع الحمل، ولهذا ترفض إجراء الأبحاث على أجنة التلقيح الصناعي، بغض النظر عن أعمارهم التي تُحسب بالأيام، بينما تملك بعض الأديان الأخرى آراء مختلفة حول بدء الحياة البشرية، ففي الصين، مثلاً، يعتقد الكثيرون أن الحياة تبدأ بعد يوم كامل من الولادة.
أما لوفل بادج وصوراني، فهما أكثر اهتماماً بالفوائد الطبية التي قد تظهر نتيجة لإجراء الأبحاث على أجنة التلقيح الاصطناعي القديمة، كما يؤمنان أن ثمار هذه الدراسات ستظهر أول ما تظهر في شكل تطورات ملموسة في علاج الخصوبة، ومعدلات أعلى للحمل عن طريق التلقيح الاصطناعي، بالإضافة لانخفاض حوادث الإجهاض أو تسمم الحمل.
كما يريان أنه سيكون هناك الكثير ليعرفانه بشأن كيفية ظهور الاضطرابات الجينية في هذه المرحلة المبكرة من تطور الأجنة.
استبدال الجينات
ومثل الكثير من العلماء حول العالم، أثارت تقنية تحرير الجينات الجديدة ( Crispr-Cas9) دهشتهما بقدرتها وبساطتها، وهي التقنية التي شُبهت بأمر "الإيجاد والاستبدال" في برامج معالجة النصوص، لكن على الخريطة الجينية للحمض النووي.
حصل معهد كريك على الرخصة الأولى لاستخدام هذه التقنية على الأجنة التي تبلغ أعمارهم يوماً واحداً، والتي تم التبرع بها للأغراض البحثية، في محاولة لفهم أسباب تكرار عمليات الإجهاض.
في الوقت ذاته، أسرع كل من لوفل بادج وصوراني بإدخال Crispr-Cas9 في الحديث حول أسباب تمديد المدة إلى 14 يوماً، حيث يرى كلاهما أنها ستسمح للعلماء باكتشاف الجينات النشطة أثناء المرحلة الحاسمة للمعيدة، حين تُكشف خطة الجسم بشكل واضح، وتبدأ طبقات الأنسجة الثلاثة الرئيسية في التشكل، الأديم الظاهر والأديم المتوسط والأديم الباطن، باعتبارها الأساس البيولوجي للأنسجة المخصصة للجهاز العصبي، وللعضلات والدم، وللرئة والأمعاء على التوالي.
كما يضيف صوراني "سيسمح لنا إحداث طفرات في الأجنة البشرية المبكرة، باستخدام Crispr-Cas9 بالتساؤل حول كيفية تأثير هذه الجينات على المرحلة المبكرة للتطور. إحدى الفوائد التي يمكننا تصورها ستظهر في الطب التجديدي. نحن نحاول صناعة العديد من أنواع الخلايا، وبعض القرارات الحاسمة تُتخَذ في هذه اللحظة".
الفئران لا تفيد
يشير صوراني ولوفل بادج أيضاً إلى أن الأمر الوحيد الذي تعلمناه من دراسة أجنة الفئران هو اختلافها عن الأجنة البشرية، كما يضيفان أن التجارب على الفئران أثبتت فاعليتها كنموذج، لكنه نموذج ما زال له حدوده، حيث يقول صوراني "لقد كانت الفئران نموذجاً أساسياً لدراسة الثدييات، لكن يظهر بشكل متزايد أنها لا تمكننا من استنباط ما سيحدث للبشر. نحن نحتاج بالفعل لفهم علم الأجنة البشرية لفهم ماهية الاختلافات".
يبدأ "الصندوق الأسود" للتطور البشري في اليوم 14 وينتهي في اليوم 28 حين يتمكن العلماء من دراسة الأجنة المُجهَضة، وبحسب ما يرى صوراني فإن الحد الجديد للأجنة لن يؤدي لسلسلة من الكوارث، بافتراض أنه سيكون من الممكن تقنياً الوصول لذلك الحد، خاصة أن الوصول لليوم 21 في التطبيق ليس "هيناً".
هل يمكن إتمام الحمل خارج الرحم؟
أما بالنسبة لإمكانية استمرار حمل كامل خارج الرحم، فيشير لوفل بادج إلى إن هذا لن يحدث، على الأقل أثناء حياته. سيظل شبح "عالم جديد شجاع" وأجنته الكاملة في أنابيب الاختبار محض خيال، فبحسب لوفل بادج "لا أحد قريب من فعل ذلك في أي نوع من الثدييات".
كما يشير أيضاً إلى الحاجة الملحة لمتابعة وفهم المعيدة، والتي لن تتم إلا عبر زيادة مدة الأربعة عشر يوماً بأسبوع أو اثنين. ويضيف "أعتقد أنه يجب إعادة النظر في هذا الحد. وأميل لذلك الرأي، لكن كعالم أعتقد أيضاً أن علينا إقناع الناس بذلك، فحجج زيادة الحدّ قوية للغاية".
وفي اليوم الرابع عشر، ربما يُلقى بعض الضوء أخيراً على الصندوق الأسود للوجود البشري.
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.