في سوريا، ثمة قول مأثور يؤكد أن "الشخص الذي لا ماضي لديه، لا مستقبل لديه". قبل أيام الحرب الأهلية الحالكة، كان يستخدم بحنين، كتحذير للشباب الجريء الحداثي الذين سئموا الماضي الذي عفا عليه الزمن، بشوارعه الضيقة، وأسواقه المزدحمة وورش عمله الصغيرة.
ولكن منذ عام 2011، عندما بدأت الاضطرابات، اتخذ الأمر منحى أكثر إيلاماً. فمع دمار معظم البلاد، كيف سيبدو المستقبل؟.
تعتقد مروة الصابوني أنه يمكن تصور ذلك وعيناها مفتوحتان على وسعهما. ولدت الصابوني ونشأت _وهي مهندسة تبلغ من العمر 34 عاماً وأم لطفلين_ في مدينة حمص التي شهدت بعضاً من أشرس المعارك في الحرب الدائرة بسوريا.. وفقاً لتقرير لصحيفة الغارديان البريطانية
![s]()
وخلافاً للكثيرين، فهي لم تترك سوريا -أو حتى حمص نفسها- خلال الحرب. فالشركة التي لا تزال هي وزوجها يديرانها معاً (نظرياً) في الميدان الرئيسي الواقع في البلدة القديمة قد أغلقت على الفور تقريباً، فسرعان ما غدا هذا الجزء من المدينة منطقة محظورة. ولكن منزلها القريب لا يزال سليماً، وعائلتها آمنة داخله.
"أنا محظوظة"، تقول الصابوني. "لم اضطر لمغادرة بيتي. لقد علقنا هناك، كما لو كنا سجناء. ولم نر القمر لمدة عامين. ولكن بصرف النظر عن النوافذ المحطمة، لم يكن هناك ضرر آخر". تضحك بسبب دهشتي مما قالته (كنا نتحدث عبر سكايب).
"أجل! قمنا بزيارة دمشق قبل 3 أشهر، وكان الناس هناك مندهشين مثلك بالضبط. هل أبدو مجنونة لأنني أضحك؟ حسناً، أنا أعتبر نفسي محظوظة. فلدي زوج رائع ومتفائل جداً، وقد ساعدنا هذا وحياتنا الروحية. هذه الرحلة هي الحياة، فهي تأتي بحلوها ومرّها. نحن ننظر إليها على أنها شيء من شأنه أن يجعلنا أفضل في النهاية. لم أذهب لرؤية معالج نفسي حتى الآن. ولكن يحدوني الأمل أنني ما زلت على طبيعتي في أعماقي".
كيف تعاملوا مع الوضع؟ "كانت هناك مراحل مختلفة، ومع كل مرحلة كانت هناك أشياء جديدة للتعامل معها. في البداية كانت المظاهرات. كنا نسمع الهتافات، والاشتباكات، وكان ذلك مزعجاً. ثم كانت هناك معارك. كان بإمكاننا سماع الطلقات في الشارع، ولكن لم يكن بوسعنا تبيّن ما كان يحدث، إنها المرة الأولى التي أسمع فيها دوي إطلاق النار. اعتدنا المزاح حول هذا الموضوع. كنا نعتقد أننا سنفتح الباب في صباح اليوم التالي، دون أن يبقى شيء على حاله. ولكن في الواقع، كل شيء سيكون على ما يرام. كنا نتساءل، أين ذهب الآخرون؟".
![s]()
"وبعد ذلك كان هناك القصف والطائرات والدبابات عند نهاية الشارع. كنا نسمع انهيار المباني، وكان أمراً مخيفاً جداً. كان هناك الكثير من القناصة هنا، وكانوا يسيطرون على منطقتنا من جميع الجهات. وقد مات الكثير من الناس وكأنهم طيور. كنا نمشي في الشارع، فيسقط شخص ما إلى جانبنا صريعاً. كان أمراً صعباً جداً. لم تعان كل مدينة مثل سوء الحظ الذي لازمنا، ولا يزال هناك جزء من حمص محاصراً حتى الآن".
هل كانت هي وزوجها قادرين على العمل؟ (يبدو سؤالاً غبياً) "لا، لم تفعل شيئاً طوال سنتين". وماذا عن الأطفال؟ "كانوا يدرسون في المنزل لبضعة أشهر، ولكن بعد ذلك ذهبوا إلى المدرسة". والآن؟ "لقد قبلت بوظيفة في مجال التدريس في إحدى الجامعات في مدينة حماة (تقع شمال مدينة حمص) وهي على بعد 30 كم. كان الأمر يستغرق 20 دقيقة للوصول إلى هناك. أما الآن فعليك أن تتجنب المنطقة الجديدة (كناية عن الأرض الواقعة تحت سيطرة الدولة الإسلامية "داعش"، وغيرها من القوى المعارضة للحكومة السورية، الجميع يستخدم هذه العبارات الملطفة). فبات الأمر يستغرق ساعتين".
هل الطريق آمن؟ "يعتمد ذلك على تعريف كلمة آمن. كلا، إنه ليس آمناً. لم يحدث شيء حتى الآن، ولكن يمكن أن يحدث في أي لحظة. تتحكم الحكومة فقط في منطقة صغيرة حول الطريق، لذا، يمكن لقوى المعارضة الدخول في أي لحظة. ولكن لا بد من القيام بذلك، وسينتهي الأمر برمته".
منذ وقف إطلاق النار المطبق منذ أواخر عام 2015، انسحب آخر فوج من قوات المعارضة الرئيسية من المدينة، فغدت حمص إلى حد كبير هادئة، ولكنها تغيرت تماماً، فقد دُمرت المدينة القديمة، التي يقع فيها السوق، وأتى الدمار تقريباً على 60٪ من أحيائها الأخرى. "الدمار الذي حل بالمدينة يفوق الخيال".
لذا، إذا أردت شراء الخبز أو البرتقال، أين تذهب؟ "انتقل الناس قليلاً إلى المناطق السكنية. في الشوارع هناك أكشاك معدنية، وأصحاب الأكشاك يقفون فيها. وأسفل شقتي هناك نجار، وماسح سيارات، ودكان حلويات. يمارس الناس كل أنواع الوظائف لكسب قوت عيشهم. وزوجي يعمل في أربعة أو خمسة وظائف. والمحاسبون يعملون في السوق، والمهندسون الميكانيكيون يعملون كسائقي سيارات الأجرة. قبل الحرب، اشتهرت حمص بقلة أعداد المشردين فيها، وذلك بفضل الجمعيات الخيرية الإسلامية. ولكن شوارعها الآن تمتلئ بهم. يظن الناس في الخارج أن أصعب التحديات التي تواجهنا على صلة بالأسلحة. ولكن الحقيقة هي أن المستشفيات، والتي ليس بها المعدات المناسبة، تقتل عدداً أكبر من الناس الآن، أكثر من الرصاص".
وماذا عن تراث المدينة؟ على الرغم من أن ما كان قائماً في حمص القديمة قبل الحرب قليل نسبياً، فقد اشتهرت بسبب معلمين هامين، كلاهما يقعان في حي الحميدية: مسجد خالد بن الوليد الذي بُني في العهد العثماني، والذي نُحت جزء من منبره الخشبي من قبل صلاح الدين الأيوبي (ويعرف أيضاً باسم صلاح الدين)، وكنيسة القديسة مريم التي تضم الحزام المقدس، والتي يعتقد أنها أقدم كنيسة في العالم وموطن الأثر القديم الذي سميت على اسمه (على الرغم من أنه قد أعيد بناؤها في منتصف القرن 19، بينما يعود تاريخ بنائها الأول إلى عام 50 بعد الميلاد). وقد لحقت أضرار بالغة بكليهما في الحرب، وجرى نهب المنبر، إلا أنه يقال إن حزام العذراء، الذي يجري عادة السير في الشوارع به يوم 15 أغسطس/ آب، في مكان آمن لم يكشف عنه.
"أنا لم أذهب إلى أي من المكانين" تقول الصابوني. "لا يسمح لأحد بالزيارة. ولكن مما أسمع، لا يسمح حتى لمنظمات الأمم المتحدة المسؤولة عن ترميم حمص القديمة أن يكون لها رأي حول المواد والخبرات".
نفس الشيء ينطبق على قلعة الحصن الصليبية الواقعة على بعد 40 كم غرب حمص التي هي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو. "إنهم [السلطات] لم يخبروا أحداً بما فعلوا في المكان. لقد زار زوجي المكان ورآه، وأعمال الترميم جارية على عجل، وأعتقد أن للأمر علاقة بإرسال الرسائل".
وعن مشاعرها تجاه هذا كله -استعادة ما تبقى من سوريا، وإعادة بناء ما دمر– قالت إنها معقدة. فبينما كنا نتكلم، لم يكن قد مضى سوى 24 ساعة منذ أن أعلنت الحكومة السورية أنها استعادت مدينة تدمر الأثرية، موقع آخر تابع للتراث العالمي لليونسكو، الذي كانت داعش قد دمرته، وحولت متحفه إلى قاعة محكمة. لكنها لا تشعر بنشوة مأمون عبد الكريم، مدير الآثار السورية، الذي ادعى أنه ثاني أسعد يوم في حياته، أو مشاركة في الارتياح السطحي الذي يتملك الناس هنا وجعلهم يمجدون بالفعل مزايا إعادة الإعمار فوراً باستخدام التكنولوجيا الرقمية.
وهذا في جانب منه لأنه لا يمكنها تجاهل سكان تدمر البائسين، "أشعر بالقلق على الناس هناك، الذين وقعوا في تبادل لإطلاق النار، وبلا أطباء لمساعدتهم. كنا نسمع أشياء فظيعة".
ولكن الأمر يحمل في طياته أكثر من ذلك. "هل تريد مني أن أتحدث بصدق؟ لا أعرف كيف أشعر حيال ذلك. لقد زرت تدمر عندما كنت في المدرسة، وحتى حينها رأيت الأسلاك الكهربائية تحيط بجميع الأعمدة، والنحت الجديد للأسماء على الحجارة القديمة، وعمليات العمران والسياحة والترميم العشوائية. كانت مهملة للغاية، ولم يكن بها أي حماية هناك في الصحراء. كان يمكن تسلق الآثار. ألقت نظرة على صورة ما يسمى بالمتحف: السقف مزيف، والقفص المعدني الملحق بالباب. جزء مني يعتقد أنه من الأفضل أن يجري تدميره".
توقفت عن الحديث بعد أن فوجئت بجرأتها. ثم تمضي قائلة "أتفهم لماذا الغرب عاطفي حيال هذا الموضوع. ولكن عندما تعيش هنا، يكون لديك زاوية مختلفة".
حددت الصابوني بعناية موقفها من الدور الحاسم الذي سيلعبه مهندسو العمارة في مستقبل سوريا، إذا ما حل السلام، فقالت في مذكراتها غير العادية "معركة للحصول على المنزل" التي سيتم نشرها هنا هذا الشهر.
وكما لو أن وجودها ليس معجزة كافية، فقد كتبت هذه المذكرات والقنابل تتساقط من حولها، ومن ثم بحثت عن المنازل المحتملة على شبكة الإنترنت، وهي تأتي مع مقدمة كتبها الفيلسوف روجر سكروتون، الذي يصف المؤلفة بأنها من أكثر الأشخاص الرائعين الذين التقى بهم على الإطلاق.
وبطبيعة الحال، كانت معرفتهما ظاهرية فحسب في تلك المرحلة. كتبت مروة قبل عامين إلى سكروتون من حمص، بشكل غير عقلاني، سائلة إياه أن يشرح شيئاً جاء في كتابه "جماليات العمارة".
كان مُتعجباً من ذلك؛ تُرى من تلك الشخصية "غريبة الأطوار" إلى هذا الحد لتكرّس وقتاً لجماليات العمارة في الوقت الذي يتهدم فيه كل ما حولها من نسيج مدينتها القديمة إلى أطلال؟ وعلى الفور قام بالرد؛ وصارا يتراسلان. ما الذي يعتقده بشأن كتابها؟ كان ذلك ما رد عليه كاتباً: "إنه ليس عملاً من مفكر عميق فحسب، بل هو أيضاً "تعبيرٌ عن روحٍ جميلة أتت إلينا ومعها.. رسالة أمل".
أنا لست على يقين بشأن الأمل؛ ولذلك أجد أن مروة نفسها أكثر إلهاماً مما يمكنني وصفه. فكرة كتابها المركزية هي أن بيئة بناء سوريا لعبت دوراً مُساهماً في الحرب ذاتها؛ وذلك لأن كثيراً من الناس يعيشون فعلياً في أحياء طائفية، ولا ينبغي على الحكومة تكرار ذلك الخطأ عندما تُعيد البناء تارة أُخرى، يبدو من شبه المؤكد أن هذا نداء لا يلقى آذاناً صاغية، على افتراض أن هناك أي شخص يستمع من الأساس.
![s]()
ومع ذلك لا شك بأن حججها هامة ودقيقة على حد سواء. تلاحظ مروة أن الجزء الأكبر من الهندسة المعمارية بمنطقة الشرق الاوسط في القرن 21 تأتي في مظهرين اثنين فحسب؛ ألا وهما نموذج دُبي الخاوي من الروح والذي يُناسب الأغنياء فحسب، والنموذج الإسلامي المصطنع، الذي يتألف في معظمه من كتلة مستطيلة على أسطح تغطيها أو لا تغطيها قبة "تشبه القبّعة".
كثيرٌ للغاية من المباني الأقدم كانت غير مُحببة، مهدومة أو تُرِكت إلى أن فسدت، في حين أن المباني الجديدة تكونت فحسب من المزيد من الإسمنت الرمادي، وهذا كان له يد في ما تعتبره مروة فقداناً للهُوية، وربما فُقداناً لاحترام الذات.
"الافتقار إلى الجمال، الوعد بحياة أفضل هما بإمكان العمارة إلهامه.. فمدينة حمص القديمة طالما عُرِفت باسم "أم الفقراء، فلا تحتاج المال للعيش هُناك، كانت مكاناً للأشجار، الياسمين، والفواكه؛ ولكن المدينة الجديدة بفسادها وكُتلها الحديثة غطت تلك الأماكن القديمة، جالبة معها اليأس والافتقار إلى الأمل".
في رحلتها اليومية إلى حماة، تمر مروة بأنقاض المدينة القديمة، إنه لمشهدٍ مُحزنٌ للغاية، فبالكاد تعرف أين تجول ببصرها، رغم ذلك، ليس بمقدورها سوى ملاحظة أن أطلالها تبدو توضيحاً لأُطروحتها الخاصة. تقول "حتى النباتات تُدرك ذلك! فالمباني القديمة لديها زهور صفراء اللون وعشب ينبت فوق حجارتها البازلتية، أما المباني الإسمنتية الجديدة؛ فتفتقر إلى الأزهار والعشب؛ إنها كالجثامين؛ بينما مازالت المباني القديمة بطريقة أو بأخرى على قيد الحياة".
يُقلقها أن الحكومة ليس لديها استراتيجية واضحة للمكان خلال إعادة البناء، فتقول: "لدينا الكثير من التحديات التي تنتظرنا. فالحاجة مُلحّة إلى تزويد الناس بالبيوت واستعادة ما فقدناه؛ ولكن ما فقدناه لم يكن صواباً في المقام الأول، أنا أؤمن بشدة بأن بطريقة ما أو بأخرى قادنا ذلك إلى هنا؛ لقد قايضنا قيم عمارتنا الإسلامية القديمة بنموذج المُستهلك المُسرف، وفي تلك العملية فقدنا أنفسنا".
تصف في كتابها "التدريس الباهت بمدرستها المعمارية"، إذ عادة ما ينتهي الأمر بالطلاب أن ينسخوا تصميماتهم من المجلات، لقد كان واضحاً أن ثمة مُستقبل باهت ينتظرهم، كان أقصى ما أمكنهم أن يطمحوا إليه هو أن يُعتبروا رسامين، وبالتأكيد كانت وظيفتها الأولى عقب التخرج مأساوية.
لأنها لم تدفع رشاوى، ولم يكن لديها علاقات مع أشخاص ذوي نفوذ؛ عملت في مكتب حكومي ممل، "لم يكن لدي أي أوهام بأن أصير زها حديد التالية، ومع ذلك؛ الأمل كفيف؛ ودائماً ما يجد طريقه لبلوغ القلب الإنساني، وهذا يشمل قلبي".
بعد انتقالها إلى مكتب العمارة في المقر الإداري لجامعة المدينة، كانت متحمسة بسبب دعوتهم لتصميم الأثاث لبعض الأمكنة. متجاهلة حيرة زملائها الذين رغبوا فحسب في تقاضي رواتبهم، عكفت على العمل على رسومها من لحظة وصولها إلى مكتبها. ولكن ذلك لم يفض إلى شيء. فقد رُفِضَت أفكارها، ودون أي تفسير.
لذا غادرت، وتزوجت بشريكها الذي يعمل مهندساً معمارياً أيضاً (زوجها من حي بابا عمرو، أحد أولى المناطق التي انتفضت ضد الأسد في حمص ، وتوصف الآن إما بالشجاعة منقطعة النظير أو الخيانة العظمى، بحسب الجانب الذي تنتمي إليه.
وقد واجها عائلتيهما كي يتزوجا، وفي 2011، تماماً بعد أن بدأت الاضطرابات، وبينما كان في طريقه إلى الكويت لتسلّم جائزة في العمارة، تم القبض عليه وأُودع في السجن لفترة وجيزة، فقط بسبب مسقط رأسه".
بعد أربع سنوات من القتال، عادت مروة وزوجها إلى مدينة حمص القديمة، بصحبة جموع العائدين الآخرين، ليلقيا نظرة على الإستوديو المهجور، هذا المكان الذي وضعا فيه كل أحلامهما، كانت تتوقع رؤية الرصاصات الفارغة، وأكياس الرمل ورائحة الدخان، ولكن ما لم تكن تتوقعه هو "الجنون الذي كان يملأ الهواء المحروق".
بحسبها كان الناس يتصرفون كسُيّاح؛ يلتقطون صوراً فوتوغرافية لأنفسهم بين الأطلال، فتقول: "لقد شعرت بأقوى فضول سبق لي أن شعرت به في حياتي". من حولها، جمع الناس مقتنيات غير منطقية، إطار صورة مكسور، أسطوانة غاز، سترة، وفي النهاية المطاف بدّل ذلك حالة البهجة المُضطربة إلى غضب: "لم يكن كافياً أن منزلك قد دُمِرَ، بل عليك أيضاً تحمل إهانة أُخرى وهي نبش أشياء تافهة فقط لتُذكِّرك بهويتك". وبمرور الأيام بدأت عمليات النهب.
![s]()
في جزء منه، تطرق كتابها إلى هذا الجنون الجماعي، من الحاجة إلى معرفة كيف قد تنزلق المجتمعات السلمية إلى ما وصفته بكونه "مذبحة حيوانية"، تعتقد مروة بأن الهندسة المعمارية يمكنها أن تقدم جزءاً من الحل. ففي عام 2010، كان هُناك 9 ملايين سوري –أي ما يقرب من نصف عدد السكان- يعيشون في الأحياء الفقيرة والمساكن العشوائية.
تقول إن ذلك مُنذرٌ برؤية التاريخ يُعيد نفسه، قبل أن تحرق دائرة العنف نفسها. فعلى سبيل المثال، تعيد الحكومة بناء مناطق المسيحيين (الداعمين للنظام الذي يستند إلى العلويين، الذين يدافعون عن المسيحيين، أقلية تدافع عن أقلية)، وفي المقابل لا تعيد بناء مناطق السُنة (العدو).
حتى أنها منعت بعض السنة من العودة للعيش تحت أنقاض منازلهم. هذا التمييز يستدعي ما فعله كل من العثمانيين، والحكم الفرنسي في سوريا من قبل، عندما -على سبيل المثال- كانت الطوائف المسيحية مفضلة أيضاً من قبل الأنظمة الفاسدة. ولم يأت خير من ذلك أيضاً.
ولكن، مازال لديها أمل؛ ففي كتابها كشفت عن خطة وضعتها لمدينة بابا عمرو، وهو مُخطط تقدمت به للمنافسة على تمويل الأمم المتحدة، يتمتع بالوداعة والإحساس بالانتماء للمجتمع –ويتألف من "وحدات للأشجار"؛ فيه محلات تجارية، وشقق مُزودة بحدائق- وهي على خلاف قوي مع أفكار الحكومة التي تدعم فكرة تصميم أبراج قائمة بذاتها، لذا قامت السلطات برفض فكرتها، ولكن رد الفعل الإلكتروني الإيجابي على أفكارها شجّعها.
![s]()
وبعد ذلك، وببساطة، تخلت عن الفكرة. فقالت "قمنا؛ زوجي وأنا، بفتح متجرٍ لبيع الكتب في حمص، نبيع الكتب من مطبعة جامعة أكسفورد ومطبعة جامعة كامبريدج وويلي، هو متجر صغير ولكن التفاعل معه مُدهش". الناس لا يتمكنون من الشراء؛ فالكتب مكلفة جداً، وعملتنا متدهورة لذا لا يستطيع الناس تحمل نفقات شراء الكتب، ولكنهم كانوا يأتون على أي حال، ويشكروننا. تحتاج حمص إلى الوقت حتى تمتلك مكاناً كهذا. يمكنك أن تشعر بحاجة الناس إلى التعامل مع عقولهم باحترام".
بطريقة أو بأخرى، ستتحسن الأمور، لقد آمَنَت بذلك في أحلك الأيام وتؤمن بذلك الآن. "آمل أن يُسمَع صوتي في نهاية المطاف". قالت ذلك ومن خارج نافذتها كان ضجيج سيارة التاكسي يبدو موافقاً لرأيها.
ولكن منذ عام 2011، عندما بدأت الاضطرابات، اتخذ الأمر منحى أكثر إيلاماً. فمع دمار معظم البلاد، كيف سيبدو المستقبل؟.
تعتقد مروة الصابوني أنه يمكن تصور ذلك وعيناها مفتوحتان على وسعهما. ولدت الصابوني ونشأت _وهي مهندسة تبلغ من العمر 34 عاماً وأم لطفلين_ في مدينة حمص التي شهدت بعضاً من أشرس المعارك في الحرب الدائرة بسوريا.. وفقاً لتقرير لصحيفة الغارديان البريطانية
مجنونة

وخلافاً للكثيرين، فهي لم تترك سوريا -أو حتى حمص نفسها- خلال الحرب. فالشركة التي لا تزال هي وزوجها يديرانها معاً (نظرياً) في الميدان الرئيسي الواقع في البلدة القديمة قد أغلقت على الفور تقريباً، فسرعان ما غدا هذا الجزء من المدينة منطقة محظورة. ولكن منزلها القريب لا يزال سليماً، وعائلتها آمنة داخله.
"أنا محظوظة"، تقول الصابوني. "لم اضطر لمغادرة بيتي. لقد علقنا هناك، كما لو كنا سجناء. ولم نر القمر لمدة عامين. ولكن بصرف النظر عن النوافذ المحطمة، لم يكن هناك ضرر آخر". تضحك بسبب دهشتي مما قالته (كنا نتحدث عبر سكايب).
"أجل! قمنا بزيارة دمشق قبل 3 أشهر، وكان الناس هناك مندهشين مثلك بالضبط. هل أبدو مجنونة لأنني أضحك؟ حسناً، أنا أعتبر نفسي محظوظة. فلدي زوج رائع ومتفائل جداً، وقد ساعدنا هذا وحياتنا الروحية. هذه الرحلة هي الحياة، فهي تأتي بحلوها ومرّها. نحن ننظر إليها على أنها شيء من شأنه أن يجعلنا أفضل في النهاية. لم أذهب لرؤية معالج نفسي حتى الآن. ولكن يحدوني الأمل أنني ما زلت على طبيعتي في أعماقي".
كيف تعاملوا مع الوضع؟ "كانت هناك مراحل مختلفة، ومع كل مرحلة كانت هناك أشياء جديدة للتعامل معها. في البداية كانت المظاهرات. كنا نسمع الهتافات، والاشتباكات، وكان ذلك مزعجاً. ثم كانت هناك معارك. كان بإمكاننا سماع الطلقات في الشارع، ولكن لم يكن بوسعنا تبيّن ما كان يحدث، إنها المرة الأولى التي أسمع فيها دوي إطلاق النار. اعتدنا المزاح حول هذا الموضوع. كنا نعتقد أننا سنفتح الباب في صباح اليوم التالي، دون أن يبقى شيء على حاله. ولكن في الواقع، كل شيء سيكون على ما يرام. كنا نتساءل، أين ذهب الآخرون؟".
قصف الطائرات

"وبعد ذلك كان هناك القصف والطائرات والدبابات عند نهاية الشارع. كنا نسمع انهيار المباني، وكان أمراً مخيفاً جداً. كان هناك الكثير من القناصة هنا، وكانوا يسيطرون على منطقتنا من جميع الجهات. وقد مات الكثير من الناس وكأنهم طيور. كنا نمشي في الشارع، فيسقط شخص ما إلى جانبنا صريعاً. كان أمراً صعباً جداً. لم تعان كل مدينة مثل سوء الحظ الذي لازمنا، ولا يزال هناك جزء من حمص محاصراً حتى الآن".
هل كانت هي وزوجها قادرين على العمل؟ (يبدو سؤالاً غبياً) "لا، لم تفعل شيئاً طوال سنتين". وماذا عن الأطفال؟ "كانوا يدرسون في المنزل لبضعة أشهر، ولكن بعد ذلك ذهبوا إلى المدرسة". والآن؟ "لقد قبلت بوظيفة في مجال التدريس في إحدى الجامعات في مدينة حماة (تقع شمال مدينة حمص) وهي على بعد 30 كم. كان الأمر يستغرق 20 دقيقة للوصول إلى هناك. أما الآن فعليك أن تتجنب المنطقة الجديدة (كناية عن الأرض الواقعة تحت سيطرة الدولة الإسلامية "داعش"، وغيرها من القوى المعارضة للحكومة السورية، الجميع يستخدم هذه العبارات الملطفة). فبات الأمر يستغرق ساعتين".
هل الطريق آمن؟ "يعتمد ذلك على تعريف كلمة آمن. كلا، إنه ليس آمناً. لم يحدث شيء حتى الآن، ولكن يمكن أن يحدث في أي لحظة. تتحكم الحكومة فقط في منطقة صغيرة حول الطريق، لذا، يمكن لقوى المعارضة الدخول في أي لحظة. ولكن لا بد من القيام بذلك، وسينتهي الأمر برمته".
منذ وقف إطلاق النار المطبق منذ أواخر عام 2015، انسحب آخر فوج من قوات المعارضة الرئيسية من المدينة، فغدت حمص إلى حد كبير هادئة، ولكنها تغيرت تماماً، فقد دُمرت المدينة القديمة، التي يقع فيها السوق، وأتى الدمار تقريباً على 60٪ من أحيائها الأخرى. "الدمار الذي حل بالمدينة يفوق الخيال".
لذا، إذا أردت شراء الخبز أو البرتقال، أين تذهب؟ "انتقل الناس قليلاً إلى المناطق السكنية. في الشوارع هناك أكشاك معدنية، وأصحاب الأكشاك يقفون فيها. وأسفل شقتي هناك نجار، وماسح سيارات، ودكان حلويات. يمارس الناس كل أنواع الوظائف لكسب قوت عيشهم. وزوجي يعمل في أربعة أو خمسة وظائف. والمحاسبون يعملون في السوق، والمهندسون الميكانيكيون يعملون كسائقي سيارات الأجرة. قبل الحرب، اشتهرت حمص بقلة أعداد المشردين فيها، وذلك بفضل الجمعيات الخيرية الإسلامية. ولكن شوارعها الآن تمتلئ بهم. يظن الناس في الخارج أن أصعب التحديات التي تواجهنا على صلة بالأسلحة. ولكن الحقيقة هي أن المستشفيات، والتي ليس بها المعدات المناسبة، تقتل عدداً أكبر من الناس الآن، أكثر من الرصاص".
وماذا عن تراث المدينة؟ على الرغم من أن ما كان قائماً في حمص القديمة قبل الحرب قليل نسبياً، فقد اشتهرت بسبب معلمين هامين، كلاهما يقعان في حي الحميدية: مسجد خالد بن الوليد الذي بُني في العهد العثماني، والذي نُحت جزء من منبره الخشبي من قبل صلاح الدين الأيوبي (ويعرف أيضاً باسم صلاح الدين)، وكنيسة القديسة مريم التي تضم الحزام المقدس، والتي يعتقد أنها أقدم كنيسة في العالم وموطن الأثر القديم الذي سميت على اسمه (على الرغم من أنه قد أعيد بناؤها في منتصف القرن 19، بينما يعود تاريخ بنائها الأول إلى عام 50 بعد الميلاد). وقد لحقت أضرار بالغة بكليهما في الحرب، وجرى نهب المنبر، إلا أنه يقال إن حزام العذراء، الذي يجري عادة السير في الشوارع به يوم 15 أغسطس/ آب، في مكان آمن لم يكشف عنه.
الآثار المحرمة
"أنا لم أذهب إلى أي من المكانين" تقول الصابوني. "لا يسمح لأحد بالزيارة. ولكن مما أسمع، لا يسمح حتى لمنظمات الأمم المتحدة المسؤولة عن ترميم حمص القديمة أن يكون لها رأي حول المواد والخبرات".
نفس الشيء ينطبق على قلعة الحصن الصليبية الواقعة على بعد 40 كم غرب حمص التي هي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو. "إنهم [السلطات] لم يخبروا أحداً بما فعلوا في المكان. لقد زار زوجي المكان ورآه، وأعمال الترميم جارية على عجل، وأعتقد أن للأمر علاقة بإرسال الرسائل".
وعن مشاعرها تجاه هذا كله -استعادة ما تبقى من سوريا، وإعادة بناء ما دمر– قالت إنها معقدة. فبينما كنا نتكلم، لم يكن قد مضى سوى 24 ساعة منذ أن أعلنت الحكومة السورية أنها استعادت مدينة تدمر الأثرية، موقع آخر تابع للتراث العالمي لليونسكو، الذي كانت داعش قد دمرته، وحولت متحفه إلى قاعة محكمة. لكنها لا تشعر بنشوة مأمون عبد الكريم، مدير الآثار السورية، الذي ادعى أنه ثاني أسعد يوم في حياته، أو مشاركة في الارتياح السطحي الذي يتملك الناس هنا وجعلهم يمجدون بالفعل مزايا إعادة الإعمار فوراً باستخدام التكنولوجيا الرقمية.
وهذا في جانب منه لأنه لا يمكنها تجاهل سكان تدمر البائسين، "أشعر بالقلق على الناس هناك، الذين وقعوا في تبادل لإطلاق النار، وبلا أطباء لمساعدتهم. كنا نسمع أشياء فظيعة".
تتمنى تدمير متحف تدمر!
ولكن الأمر يحمل في طياته أكثر من ذلك. "هل تريد مني أن أتحدث بصدق؟ لا أعرف كيف أشعر حيال ذلك. لقد زرت تدمر عندما كنت في المدرسة، وحتى حينها رأيت الأسلاك الكهربائية تحيط بجميع الأعمدة، والنحت الجديد للأسماء على الحجارة القديمة، وعمليات العمران والسياحة والترميم العشوائية. كانت مهملة للغاية، ولم يكن بها أي حماية هناك في الصحراء. كان يمكن تسلق الآثار. ألقت نظرة على صورة ما يسمى بالمتحف: السقف مزيف، والقفص المعدني الملحق بالباب. جزء مني يعتقد أنه من الأفضل أن يجري تدميره".
توقفت عن الحديث بعد أن فوجئت بجرأتها. ثم تمضي قائلة "أتفهم لماذا الغرب عاطفي حيال هذا الموضوع. ولكن عندما تعيش هنا، يكون لديك زاوية مختلفة".
حددت الصابوني بعناية موقفها من الدور الحاسم الذي سيلعبه مهندسو العمارة في مستقبل سوريا، إذا ما حل السلام، فقالت في مذكراتها غير العادية "معركة للحصول على المنزل" التي سيتم نشرها هنا هذا الشهر.
وكما لو أن وجودها ليس معجزة كافية، فقد كتبت هذه المذكرات والقنابل تتساقط من حولها، ومن ثم بحثت عن المنازل المحتملة على شبكة الإنترنت، وهي تأتي مع مقدمة كتبها الفيلسوف روجر سكروتون، الذي يصف المؤلفة بأنها من أكثر الأشخاص الرائعين الذين التقى بهم على الإطلاق.
وبطبيعة الحال، كانت معرفتهما ظاهرية فحسب في تلك المرحلة. كتبت مروة قبل عامين إلى سكروتون من حمص، بشكل غير عقلاني، سائلة إياه أن يشرح شيئاً جاء في كتابه "جماليات العمارة".
كان مُتعجباً من ذلك؛ تُرى من تلك الشخصية "غريبة الأطوار" إلى هذا الحد لتكرّس وقتاً لجماليات العمارة في الوقت الذي يتهدم فيه كل ما حولها من نسيج مدينتها القديمة إلى أطلال؟ وعلى الفور قام بالرد؛ وصارا يتراسلان. ما الذي يعتقده بشأن كتابها؟ كان ذلك ما رد عليه كاتباً: "إنه ليس عملاً من مفكر عميق فحسب، بل هو أيضاً "تعبيرٌ عن روحٍ جميلة أتت إلينا ومعها.. رسالة أمل".
أنا لست على يقين بشأن الأمل؛ ولذلك أجد أن مروة نفسها أكثر إلهاماً مما يمكنني وصفه. فكرة كتابها المركزية هي أن بيئة بناء سوريا لعبت دوراً مُساهماً في الحرب ذاتها؛ وذلك لأن كثيراً من الناس يعيشون فعلياً في أحياء طائفية، ولا ينبغي على الحكومة تكرار ذلك الخطأ عندما تُعيد البناء تارة أُخرى، يبدو من شبه المؤكد أن هذا نداء لا يلقى آذاناً صاغية، على افتراض أن هناك أي شخص يستمع من الأساس.
أزمة العمارة في الشرق الأوسط

ومع ذلك لا شك بأن حججها هامة ودقيقة على حد سواء. تلاحظ مروة أن الجزء الأكبر من الهندسة المعمارية بمنطقة الشرق الاوسط في القرن 21 تأتي في مظهرين اثنين فحسب؛ ألا وهما نموذج دُبي الخاوي من الروح والذي يُناسب الأغنياء فحسب، والنموذج الإسلامي المصطنع، الذي يتألف في معظمه من كتلة مستطيلة على أسطح تغطيها أو لا تغطيها قبة "تشبه القبّعة".
كثيرٌ للغاية من المباني الأقدم كانت غير مُحببة، مهدومة أو تُرِكت إلى أن فسدت، في حين أن المباني الجديدة تكونت فحسب من المزيد من الإسمنت الرمادي، وهذا كان له يد في ما تعتبره مروة فقداناً للهُوية، وربما فُقداناً لاحترام الذات.
"الافتقار إلى الجمال، الوعد بحياة أفضل هما بإمكان العمارة إلهامه.. فمدينة حمص القديمة طالما عُرِفت باسم "أم الفقراء، فلا تحتاج المال للعيش هُناك، كانت مكاناً للأشجار، الياسمين، والفواكه؛ ولكن المدينة الجديدة بفسادها وكُتلها الحديثة غطت تلك الأماكن القديمة، جالبة معها اليأس والافتقار إلى الأمل".
في رحلتها اليومية إلى حماة، تمر مروة بأنقاض المدينة القديمة، إنه لمشهدٍ مُحزنٌ للغاية، فبالكاد تعرف أين تجول ببصرها، رغم ذلك، ليس بمقدورها سوى ملاحظة أن أطلالها تبدو توضيحاً لأُطروحتها الخاصة. تقول "حتى النباتات تُدرك ذلك! فالمباني القديمة لديها زهور صفراء اللون وعشب ينبت فوق حجارتها البازلتية، أما المباني الإسمنتية الجديدة؛ فتفتقر إلى الأزهار والعشب؛ إنها كالجثامين؛ بينما مازالت المباني القديمة بطريقة أو بأخرى على قيد الحياة".
يُقلقها أن الحكومة ليس لديها استراتيجية واضحة للمكان خلال إعادة البناء، فتقول: "لدينا الكثير من التحديات التي تنتظرنا. فالحاجة مُلحّة إلى تزويد الناس بالبيوت واستعادة ما فقدناه؛ ولكن ما فقدناه لم يكن صواباً في المقام الأول، أنا أؤمن بشدة بأن بطريقة ما أو بأخرى قادنا ذلك إلى هنا؛ لقد قايضنا قيم عمارتنا الإسلامية القديمة بنموذج المُستهلك المُسرف، وفي تلك العملية فقدنا أنفسنا".
تصف في كتابها "التدريس الباهت بمدرستها المعمارية"، إذ عادة ما ينتهي الأمر بالطلاب أن ينسخوا تصميماتهم من المجلات، لقد كان واضحاً أن ثمة مُستقبل باهت ينتظرهم، كان أقصى ما أمكنهم أن يطمحوا إليه هو أن يُعتبروا رسامين، وبالتأكيد كانت وظيفتها الأولى عقب التخرج مأساوية.
لأنها لم تدفع رشاوى، ولم يكن لديها علاقات مع أشخاص ذوي نفوذ؛ عملت في مكتب حكومي ممل، "لم يكن لدي أي أوهام بأن أصير زها حديد التالية، ومع ذلك؛ الأمل كفيف؛ ودائماً ما يجد طريقه لبلوغ القلب الإنساني، وهذا يشمل قلبي".
بعد انتقالها إلى مكتب العمارة في المقر الإداري لجامعة المدينة، كانت متحمسة بسبب دعوتهم لتصميم الأثاث لبعض الأمكنة. متجاهلة حيرة زملائها الذين رغبوا فحسب في تقاضي رواتبهم، عكفت على العمل على رسومها من لحظة وصولها إلى مكتبها. ولكن ذلك لم يفض إلى شيء. فقد رُفِضَت أفكارها، ودون أي تفسير.
لذا غادرت، وتزوجت بشريكها الذي يعمل مهندساً معمارياً أيضاً (زوجها من حي بابا عمرو، أحد أولى المناطق التي انتفضت ضد الأسد في حمص ، وتوصف الآن إما بالشجاعة منقطعة النظير أو الخيانة العظمى، بحسب الجانب الذي تنتمي إليه.
وقد واجها عائلتيهما كي يتزوجا، وفي 2011، تماماً بعد أن بدأت الاضطرابات، وبينما كان في طريقه إلى الكويت لتسلّم جائزة في العمارة، تم القبض عليه وأُودع في السجن لفترة وجيزة، فقط بسبب مسقط رأسه".
بعد أربع سنوات من القتال، عادت مروة وزوجها إلى مدينة حمص القديمة، بصحبة جموع العائدين الآخرين، ليلقيا نظرة على الإستوديو المهجور، هذا المكان الذي وضعا فيه كل أحلامهما، كانت تتوقع رؤية الرصاصات الفارغة، وأكياس الرمل ورائحة الدخان، ولكن ما لم تكن تتوقعه هو "الجنون الذي كان يملأ الهواء المحروق".
سياح في بيوتهم
بحسبها كان الناس يتصرفون كسُيّاح؛ يلتقطون صوراً فوتوغرافية لأنفسهم بين الأطلال، فتقول: "لقد شعرت بأقوى فضول سبق لي أن شعرت به في حياتي". من حولها، جمع الناس مقتنيات غير منطقية، إطار صورة مكسور، أسطوانة غاز، سترة، وفي النهاية المطاف بدّل ذلك حالة البهجة المُضطربة إلى غضب: "لم يكن كافياً أن منزلك قد دُمِرَ، بل عليك أيضاً تحمل إهانة أُخرى وهي نبش أشياء تافهة فقط لتُذكِّرك بهويتك". وبمرور الأيام بدأت عمليات النهب.
العمارة هي الحل

في جزء منه، تطرق كتابها إلى هذا الجنون الجماعي، من الحاجة إلى معرفة كيف قد تنزلق المجتمعات السلمية إلى ما وصفته بكونه "مذبحة حيوانية"، تعتقد مروة بأن الهندسة المعمارية يمكنها أن تقدم جزءاً من الحل. ففي عام 2010، كان هُناك 9 ملايين سوري –أي ما يقرب من نصف عدد السكان- يعيشون في الأحياء الفقيرة والمساكن العشوائية.
تقول إن ذلك مُنذرٌ برؤية التاريخ يُعيد نفسه، قبل أن تحرق دائرة العنف نفسها. فعلى سبيل المثال، تعيد الحكومة بناء مناطق المسيحيين (الداعمين للنظام الذي يستند إلى العلويين، الذين يدافعون عن المسيحيين، أقلية تدافع عن أقلية)، وفي المقابل لا تعيد بناء مناطق السُنة (العدو).
حتى أنها منعت بعض السنة من العودة للعيش تحت أنقاض منازلهم. هذا التمييز يستدعي ما فعله كل من العثمانيين، والحكم الفرنسي في سوريا من قبل، عندما -على سبيل المثال- كانت الطوائف المسيحية مفضلة أيضاً من قبل الأنظمة الفاسدة. ولم يأت خير من ذلك أيضاً.
ولكن، مازال لديها أمل؛ ففي كتابها كشفت عن خطة وضعتها لمدينة بابا عمرو، وهو مُخطط تقدمت به للمنافسة على تمويل الأمم المتحدة، يتمتع بالوداعة والإحساس بالانتماء للمجتمع –ويتألف من "وحدات للأشجار"؛ فيه محلات تجارية، وشقق مُزودة بحدائق- وهي على خلاف قوي مع أفكار الحكومة التي تدعم فكرة تصميم أبراج قائمة بذاتها، لذا قامت السلطات برفض فكرتها، ولكن رد الفعل الإلكتروني الإيجابي على أفكارها شجّعها.
كتب أوكسفورد

وبعد ذلك، وببساطة، تخلت عن الفكرة. فقالت "قمنا؛ زوجي وأنا، بفتح متجرٍ لبيع الكتب في حمص، نبيع الكتب من مطبعة جامعة أكسفورد ومطبعة جامعة كامبريدج وويلي، هو متجر صغير ولكن التفاعل معه مُدهش". الناس لا يتمكنون من الشراء؛ فالكتب مكلفة جداً، وعملتنا متدهورة لذا لا يستطيع الناس تحمل نفقات شراء الكتب، ولكنهم كانوا يأتون على أي حال، ويشكروننا. تحتاج حمص إلى الوقت حتى تمتلك مكاناً كهذا. يمكنك أن تشعر بحاجة الناس إلى التعامل مع عقولهم باحترام".
بطريقة أو بأخرى، ستتحسن الأمور، لقد آمَنَت بذلك في أحلك الأيام وتؤمن بذلك الآن. "آمل أن يُسمَع صوتي في نهاية المطاف". قالت ذلك ومن خارج نافذتها كان ضجيج سيارة التاكسي يبدو موافقاً لرأيها.
- هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية يرجى الضغط هنا.